«التاريخ السري لحرب الريف»

dimanche 3 juillet 2011 by: محمد الرزوقي



لازال موضوع حرب الريف يثير اهتمام قطاعات عريضة من الرأي العام الإسباني، بسبب الهزة العميقة التي أحدثتها بطولاتها داخل بنية الدولة والمجتمع الإسبانيتين خلال مطلع عشرينيات القرن 20. فهزيمة مدوية مثل ما وقع في أنوال سنة 1921، لم تكن مجرد مواجهة عسكرية تقليدية بين قوة استعمارية غاشمة وبين فرق من المجاهدين الساعين إلى دعم حريتهم وسيادتهم، بقدر ما أنها اعتبرت ثاني أخطر ضربة قاسية لوجود إسبانيا «الإمبراطوري» بعد الهزيمة الكبرى التي ألحقت بها بمستعمرة كوبا سنة 1898. لذلك، فقد اهتم المؤرخون الإسبان بالبحث المسترسل في خبايا حروب الريف التحريرية، بهدف فهم أسرارها وإيجاد المبررات الكفيلة بالاستجابة لنهم «الوعي الشقي» الإسباني الذي لم يستطع قبول كل التفسيرات التقنية التي قدمت لحدث تفوق هؤلاء المقاتلين الريفيين القرويين على القوات العسكرية الإسبانية النظامية المجهزة بأحدث التقنيات والمؤطرة بأكثر العناصر كفاءة وخبرة ميدانية مباشرة. وتزداد مثل هذه النزوعات إلحاحا لدى القوى الحية الإسبانية المعاصرة، بسبب ما أصبح الرأي العام المحلي قادرا على الوقوف عليه من أسرار جرائم ارتكبها الجيش الأسباني ضد الآلاف من المدنيين الأبرياء، وعلى رأسها جريمة قصف التجمعات القروية بالأسلحة الكيماوية والتي تعتبر جريمة حرب بكل المقاييس، لا يمكن أن تسقط مطالب جبرها بالتساقط تحت أي ظرف من الظروف. وقبل ذلك، فالأمر لازال مرتبطا ـ في الكثير من جوانبه ـ بمجمل العقد التاريخية التي أصبحت تطبق بقوة على علاقات الإسبان بجيرانهم المغاربة، عقد مزمنة ساهمت في تكريس رؤى نمطية جاهزة لدى إسبان اليوم تجاه مغاربة اليوم والأمس. فالكثير من القراءات ظلت تستنسخ أحكاما متسرعة وسهلة حول واقع الدولة والمجتمع المغربيين، قراءات مركزية ترفض الإنصات « للأصوات الأخرى « وتأبى إلا أن تنغلق على مركزيتها القاتلة وعلى ذاتها الشوفينية. وخلف هذه الرؤى، توارت الحقائق، وحجبت روايات الزيف صدقية الوقائع. ورغم أن الأمر قد هيمن لفترة زمنية طويلة على مجال النشر والاتصال بإسبانيا، فإن الوضع قد بدأ في التململ بشكل جلي خلال العقدين الأخيرين، تحت وقع تواتر صدور سلسلة من الأعمال الجامعية الرصينة التي استطاعت أن تبتعد عن روح المنجز «الجاهز»، وأن تركب مغامرة البحث والسؤال وفق منطلقات لا ولاء لها إلا للضوابط العلمية المجددة ولأدواتها الإجرائية المعروفة.
في إطار هذا هذا التطور العام، يندرج صدور كتاب «التاريخ السري لحرب الريف ـ المغرب .. الحلم المزعج» لمؤلفه خوان باندو، والذي صدرت ترجمته العربية سنة 2008، في ما مجموعه 475 صفحة من الحجم الكبير، بتوقيع المترجمة سناء الشعيري. وقد سعى الكتاب إلى إعادة مقاربة موضوع حرب الريف من وجهة نظر إسبانية متحررة من ضغط الحمولات التاريخية للمشاكل المزمنة للعلاقات المغربية الإسبانية، بالاستناد إلى رصيد وثائقي غزير ومتنوع، لم يكن الإطلاع عليه متاحا بالنسبة للباحثين خلال الفترات السابقة. لذلك، فهذا الزاد الوثائقي كان منطلقا وجه المؤلف في عمله وأكسبه المواد الأساسية لإعادة اختراق طابوهات ما كان يعرف بـ«كابوس إفريقيا» الذي رسخته هزيمة أنوال الشهيرة في المخيال الإسباني الجماعي خلال الفترة المعاصرة. وقد لخص المؤلف هذا المنحى المنهجي في البحث وفي التنقيب، في كلمة تقديمية تركيبية مركزة، جاء فيها: «... في مجال البحث، أصبحت المشاكل أكثر تعقيدا حينما بدأت سنة 1990، عملية تنقيب مكثفة عن الوثائق، بيد أن الاختفاء أو الإتلاف... مهد الطريق لكارثة أخرى موازية، تتلخص في حرمان هذا المجهود العلمي من ربط اتصال رصين ومعقلن بين الذاكرة الشخصية وبين البيانات الرسمية. وفي هذا الصدد كان للكاتب حظ كبير، إذ عثر في أرشيفات ماورا، على نسخ كاملة من المحادثات التليغرافية التي كانت تجري بين برنكر والفيكونت إيزا، الذي كان وزيرا للحرب في وزارة إينديسلاثار . وكان ماورا عند توليه الحكم في غشت 1921، شديد الحرص على أن تسلم إليه المحادثات شخصيا. وإلى جانب هذه الأخيرة، تمت صيانة محادثات أخرى ربطت برنكر بثيرفا. وهكذا صارت كل هذه المستندات التي لم تنشر بعد، بمثابة رأسمال قوي وفعال بمقدوره أن يكشف عن مجموعة من الحقائق. وانضاف إلى هذا الرصيد، أرشيف آخر لا يقل أهمية عن الأول، وهو بدوره لم ينشر بعد إلى يومنا هذا، يتعلق الأمر بالأرشيف الشخصي للجنرال بيكاسو، الذي ساعد على إعادة بناء طبيعة الأحداث وتسهيل فهمها. ونضيف إلى كل هذا، مخزون الوثائق لعائلة مانيا، والأرشيف الشخصي الجدير بالذكر لدومينكيز يوسا. مع كل هذه الاكتشافات، توضحت الرؤيا جيدا، وظهر قصور الدراسات التي أجريت حول معركة أنوال ونتائجها...» (ص ص. 9 ـ 10).
وبهدف سد ثغرات هذا القصور، سعى خوان باندو إلى توظيف رصيده الوثائقي الغزير، مستنطقا أسراره وكاشفا عن طلاسيمه، بشكل سمح له بإنجاز دراسة قطاعية رائدة لا شك وأنها تعيد تقييم حقيقة قضية حضور حروب الريف التحريرية في الذاكرة المغربية الإسبانية المشتركة. ولتغطية جوانب الدراسة، قسم المؤلف عمله بين سبعة فصول مركزية، وتقديم منهجي، وتصنيف كرونولوجي للوقائع المفسرة لأسرار حرب الريف، ثم سلسلة فهارس خاصة بالوثائق المعتمدة وبالأعلام. وفي كل ذلك، انطلق من ضبط دقيق لموطن الأحداث بمنطقة الريف، ثم بسياقات المواجهات العسكرية الكبرى مثل دهار أبران وأنوال، وأخيرا بمصير «رجال إسبانيا» فوق الأرض المغربية، ممن ركبوا مغامرة الغزو والاحتلال.
إنها كتابة بصيغة مزدوجة، تستقرأ تفاصيل حرب الريف من جهة، وتبحث في واقع إسبانيا الذي صنع هذه الحرب، وتتتبع وقعها على صورة إسبانيا ولدى رجالها وعلى تأثيراتها على الحلم الإمبريالي الإيبيري من جهة ثانية. فهي بذلك، كتابة جريئة، لا تترد في طرح الأسئلة المغيبة عن التداول الإعلامي الإسباني المعاصر للموضوع، اعتمادا على عدة منهجية محترمة وأدوات تنقيبية تأسيسية، لا شك وأنها تساهم في إعادة فتح صفحات حروب الريف التحريرية بشكل يسمح بتحقيق المصالحة الضرورية بين سياقاتها من جهة، وبين مواقف إسبان اليوم من وقائعها من جهة ثانية. وعلى الرغم من بعض المنزلقات التي تنفلت من بين متون الكتاب لأسباب متعددة، فالمؤكد أن العمل يعتبر إضافة هامة لمجال تراكم بيبليوغرافيا حروب الريف التحريرية، ومساهمة متميزة، لابد وأن تؤدي إلى تجديد رؤى الباحثين الإسبان نحو خبايا الموضوع، بعيدا عن الأحقاد الموروثة، وعن الاستنتاجات النمطية، وعن الخلاصات الجاهزة التي طبعت مواقف الإسبان ـ عموما ـ تجاه الكثير من قضايا العلاقات المغربية الإسبانية، قديما وحديثا
.

Filed under: