لوكيوس أبوليوس ... مثقف أمازيغي... قراءة في رواية الحمار الذهبي

dimanche 24 juillet 2011 by: محمد الرزوقي

يبقى كتاب أبوليوس المهم طبعا هو التحول أو الحمار الذهبي الذي ظهر في أحد عشر جزءا. ‏إنها رواية طويلة تحكى بصيغة المتكلم بطلها لوكيوس، وهو شاب يسكنه الفضول. خلال سفر الشاب ‏لوسيوس، الذي ينتمي لعائلة ميسورة، إلى هيباتا، اكترى غرفة عند ساحرة تسمى فوتيس. بعد ذلك ‏سيدخل في علاقات عاطفية مع خادمتها، ثم سيحاول الإمساك بخيوط معرفتها السحرية. وفي الليل‎ ‎هاجمه ‏ثلاثة لصوص ولم يكن له مفر من مصارعتهم، وتمكن منهم فقضى عليهم جميعهم. قبض‎ ‎عليه وسجن ‏بتهمة القتل. لكن في المحكمة، عندما أحضرت الجثث لإثبات الجريمة، تبين أنه لم‎ ‎يكن هناك جثث، بل ‏كانت ثلاث قرب مملوءة بالهواء. أطلق سراح الشاب لعدم حدوث جريمة‎ ‎القتل أساسا، على الرغم من أنه ‏هو القاتل.‏
أدرك البطل أن الساحرة علمت بوجوده ورغبت‎ ‎في التحرش به، من هنا ازدادت رغبته في معرفة ‏أعمال هذه الساحرة. بمساعدة الخاد‎ ‎مة وصل إلى بيت الساحرة ورأى بنفسه كيف دهنت نفسها بدهان ‏تحولت بعده‎ ‎إلى بومة، وطارت أمام عينه إلى السماء وهو يشاهدها... ‏
ازداد حب الاستطلاع عند لوسيوس ورغب في تجربة الدهان بنفسه، وطلب من الخادمة أن تسمح له ‏بأن تأتيه بالوعاء ليدهن‎ ‎نفسه به. كذلك كان واستجابت الخادمة لطلبه وأعطته علبة الدهان. لكنها أخطأت ‏في إحضار العلبة الخاصة بالطيور، وأعطته الدهان الذي‎ ‎حوله إلى حمار، وهنا تبدأ رحلة السخرية التي ‏استفاد منها الكاتب لينقل أفكاره، فقد تحول هذا الإنسان بشكله إلى حمار، ولكن عقله بقي عقل إنسان ‏مفكرر. بعد هذه الحادثة الغير نتوقعة، وعدته‎ ‎الخادمة بأنها ستحضر له الدواء المضاد وهو عشب الورد ‏الذي سيعيده إلى وضعه‎ ‎الإنساني، وطلبت منه أن يبقى في الإسطبل حتى تحضر له المطلوب، وهنا يأتي ‏اللصوص ويسرقونه مع بقية الخيل وتبدأ رحلة المشاكل...‏
في رحلته الأولى مع اللصوص، يكون لوسيوس (الحمار)‏‎ ‎شاهدا على عملية اختطاف إحدى العرائس ‏التي سيقع في حبها، وكان يعاملها معاملة خاصة‎ ‎قدرتها له، ولكن حياته بقيت معروفة بأنه حمار، ويقوم ‏بأعمال الحممير، فهو يتمنى أن‎ ‎يحمل الحبيبة إلى أي مكان، ولكن أصحاب الإسطبل يفضلون عمله على ‏رحى طحن أو‎ ‎حمل الحطب أو نقل الأمتعة...‏
هكذا يجد البطل لوسيوس نفسه فجأة وقد تحول إلى حمار نتيجة مخدر سحري صنعته الساحرة‎ ‎بامفيلي، ‏و كي يسترجع آدميته كان عليه كما أسلفنا أن يتناول وردة، لكن لسوء‏‎ ‎حظه (ليجد ابوليوس فسحة اكبر ‏للتعبير) قيده مجموعة من اللصوص في مكان بعيد عن‎ ‎الورود و هكذا ستنشبك أحداث الرواية. ‏
سيهرب الحمار (لوسيوس) ليصبح مطية لعدد من القراصنة، ثم عدد من العبيد الفارين، ثم عدد من ‏الكهنة القادمين من سوريا، ثم طحان، فسباخ، فعسكري، فعبدين، فحلواني وطباخين أخوين، ثم سيدهما. ‏وبما أن الحمار هو الذي يحكي وقد حافظ على قوة ملاحظته وفكره النقدي كإنسان، فإن الكاتب يقدم لنا، ‏من الداخل، كل الأنشطة والأمور التي تشغل الأوساط المختلفة التي اتصل بها في المجتمع الأمازيغي ‏والروماني. ‏
يبقى فكر لوسيوس فكر إنسان، فكانت هذه هي الرابطة التي تربطه ببني جنسه الأصلي،‎ ‎ومنها أيضا ‏ارتفع حب أصحابه له. وقد كانت مشكلته الكبيرة هي في الأكل فهو لا يأكل أكل‎ ‎الحمير. لذا أحبه ‏أصحابه لأنه حمار صاحب ذوق، فهو لا يأكل الأعشاب ولكنه‏‎ ‎يأكل الخبر، فعلموا أنه حيوان نادر فعلموه ‏بعض الألعاب فأجادها،‎ ‎وجعلوه يقوم برقصات وألعاب على المسارح... ‏
تمكن الحمار (لوسيوس) من الهرب ليصل إلى الشاطئ، وغسل‎ ‎بدنه سبع مرات وطلب من الآلهة أن ‏تحرره من شكله الحيواني... وهنا وصل موكب عظيم‎ ‎لتقديس الآلهة يحمل أعشاب الورد، فقفز إليها ‏وأكل منها، وعاد إلى هيئة الأولى‎ ‎كإنسان.‏
تحول لوسيوس إلى حمار في الكتاب الثالث من الأجزاء الإحدى عشر، وظل كذلك يحكي إلى أن ‏وصل الكتاب الأخير الذي سيتمكن فيه من التحول بالخلف مرة أخرى إلى إنسان بعد أن أكل الوردة ‏العجيبة وحصل على العفو بمساعدة الإلهة إزيس. ‏
أهدى أبولي نهاية سعيدة على شرف إيزيس، إذ في‏‎ ‎موكب الاحتفال بالإلهة الفرعونية سيأكل الوردة ‏الرمز ويسترد آدميته. والنص في‎ ‎جوهره يبدو و كأنه احتفاء و تبجيل لديانة القرطاجيين الذين كانوا ‏يعبدون إيزيس إلى‎ ‎جانب فينوس.‏
هذا الكتاب ليست قصة واحدة بل قصص منوعة وعديدة،‎ ‎وكل منها مستقلة بذاتها، ولكنها كلها في ‏رواية واحدة. وهذا الكتاب مقسم إلى أحد عشر باباً، كل‎ ‎واحد من هذه الأبواب هو امتداد للرواية، وهو ‏في الوقت نفسه رواية في قلب رواية مثل‏‎ ‎قصة العقاب البشع، وقصة العاشق المتخفي، وقصة التنين، ‏وقصة الطحان... وغيرها من‎ ‎القصص المتناثرة على صفحات هذه الرواية الرائعة.‏
و حين يحس أبولي‎ ‎بالظمأ الفني سيستجدي الميتولوجيا، إذ تضم أحد المقاطع التي عُدت من طرف ‏النقاد من الأهمية بمكان حكاية بسيكي-ربة الروح- حين‎ ‎واجهت الوحش -رمز الغرور والنرجسية- ‏عقابا على جمالها الأخاذ وحاولت قتله بناء على‎ ‎نصيحة أخواتها اللواتي يكرهنها لأنها أجمل منهن. و في ‏خضم مغامرتها ستسقط بفعل‎ ‎ذهولها قطرة من زيت الفانوس الحامي على كتف إيروس فيطردها الأخير. ‏و بناء على نصيحة‎ ‎فينوز كي تلتقي به ستنجز بعض الأعمال من بينها النزول إلى الجحيم لتتزوج ‏بإيروس في النهاية.‏
الرواية فيها انزياحات تنحرف عن الحكاية الرئيسية لتحكي قصصا قصيرة أخرى كقصة الحب والنفس ‏مثلا ضمن الرواية الطويلة. ومن ثم فإن رواية التحول هي أيضا مجموعة قصصية تحكي عن خادم مسنة ‏في مغارة القراصنة، وعن فتاة تحب الجن، وعن الإلهة إزيس التي تستحود على فكر أبوليوس. كل ذلك ‏في أسلوب يتراوح بين الديني والأسطوري والميتافيزيقي والخرافي، تغلفه نغمة حزينة يتزاوج فيها العنف ‏بالسادية.‏
يحدث كل ذلك والكاتب الكبير أبوليوس الأمازيغي يبرع في استحضار الخيال المدهش والأسطورة ‏ليروي لنا قصة امتنع حتى الآن عن النقاد التوصل إلى الإمساك بجميع تفاصيلها وخيوطها، فهو ينتقد ‏الوضع السياسي بروما مستحضرا كل ما يخالج الفرد من تنائيات: الحب والكره، التضحية والخيانة، ‏الوفاء والغدر، الفضيلة والرذيلة، الاحترام والتطاول، الدراما والكوميديا، الإيمان والتحرر... كما يجمع ‏أبوليوس في روايته بين شخصيات متناقضة أيضا: الغني والفقير، القرصان والفلاح، العسكري والتاجر، ‏الغانية والمتعففة، الساحرة والمؤمنة... إنها رواية تبحث عن حقيقة الأشياء عبر النظر إليها من زوايا ‏مختلفة (لوكيوس الإنسان ولوكيوس المتخفي في دور الحمار). لم يكن التحول أبديا، بل إنه عبارة عن ‏تحول-قضية قابل للعودة إلى نقطة البدء (إنسان-حمار-إنسان) بعد تسجيل الملاحظات على حين غرة ‏وفي غفلة من الآخرين الذين لا ينتبهون للحمار. لكنه ليس حمارا عاديا، بل هو حمار في الشكل فقط ‏يحتفظ بقوة الملاحظة. ‏
لماذا التحول إلى حمار وليس إلى حيوان آخر؟ ‏
لأن الحمار في الثقافة الأمازيغية ينعث بالبلادة، لكن أيضا بالمكر. وبخصوص ذكاء الحمار أبوليوس ‏نقرأ في الرواية: وقد تنبأ الحمار الآخر بقصدي وسبقني إليه، فتصنع فجأة التعب وهوى بكل ثقل جثته ‏وظل ممددا على الأرض كما لو أنه جثة هامدة، فلا الضرب بالعصا التي انهالت عليه، ولا الوخز ‏بالقضيب، ولا الجدب والشد الذي تعرض له عنقه وقوائمه، كل هذا لم يفلح في رفعه من على الأرض. ‏وحين تعب السرقة من أمره ولم يعد لديهم أمل في تحركه... تشاوروا، لتنتهي بهم المشورة إلى حز ‏ساقيه بالسيف وجره بعيدا عن الطريق، وهو لازال يتنفس، ثم رميه من فوق تلة عالية جدا حتى لا ‏يعطلهم عن الهرب... حين فكرت أنا فيما آل إليه الحمار صديقي، قررت أن أتراجع عما كان في نفسي ‏من مكر ومضيت أخدم أصحابي السارقين بكل وفاء وإخلاص... . ‏
وعن الغراب الذي يعتبره البربر فأل شؤم وإنذارا بالموت وإشارة إلى الشيخوخة والذمامة، نقرأ في ‏الرواية: أي طائر أجمل ومحبب إلى المرأة أكثر من الغراب. ألا نقوم باصطياد هذا الطير ليلا متى ‏دخل البيوت لندقه بالمسامير على الباب حتى نطرد بتعذيبه ذاك الكارثة التي كان سيستجلبها وهو يطير ‏محلقا من حولنا في الفضاء؟ . ‏
ونقرأ أيضا في الرواية عن البئر التي تعد رمزا للإنتحار: وجهت غضبها ضد سلالتها، إذ أنها ستدير ‏حول جسدها حبلا وتشد إليها بنفس الحبل رضيعها الذي أنجبته للتو من زوجها، ثم سترمي بنفسها في ‏البئر العميقة .‏
كما نقرأ عن الحلم في الرواية: لا ترهبنك صور الأحلام الزائفة، إذ لا تعد أحلام النهار وحدها كاذبة، ‏بل إن أحلام الليل تشير في الغالب إلى عكس ما تذهب إليه ظاهريا. وبالتالي، فإن البكاء، أو تلقي ‏اللكمات، أو حتى التعرض للذبح في بعض الأحيان، ينبئ بربح أو حدوث أمور سعيدة. وبالعكس، فإن ‏الضحك، أو ملأ البطن بالحلوى أو أي شيئ حلو جميل، أو الاجتماع بفرد لتذوق اللذة الجسدية يعني أن ‏الحزن أوالمرض أو أشياء أخرى عصيبة هي لنا بالمرصاد... .

Filed under: